أرشيف
حمام قرقور… قبلة السياحة الحموية في حضن الجبل

شيده الرومان قبل 19 قرنا بأمر من الإمبراطور..
سيدي الجودي أسس الزاوية واعتنى بالحمام
البعض يختار الحمام للعلاج والبعض الآخر يفضل الدجاج
إعداد: مريم مرابط
الزائر لسلطانة بلاد الكرم، أي سطيف، سيفاجأ حتما بالمكانة الراقية التي تحتلها مدينة “ستيفيس” كما كانت تسمى سابقا، من حيث موقعها الاستراتيجي، فهي البوابة الغربية للهضاب العليا ونقطة عبور بين الشمال والجنوب الصحراوي، ولا غرابة في ذلك فهي مهد الحضارة النوميدية والرومانية. وما سيكتشفه ضيوف هذه المدينة أنها تتوسط سلسلتين جبليتين وسهول شاسعة جعلت من سحرها محل تعاقب الوندال والرومان..والاستعمار الفرنسي لاستغلال خيراتها.
المميز في هذه المدينة الجميلة أنها جاثمة على محطة للمياه الجوفية والينابيع المعدنية، وهذا ما جعل مركز “وطنية تي في” للتدريب السمعي البصري بالتنسيق مع “جمعية الشباب للثقافة والإعلام” يقرران تنظيم رحلة سياحية لهواة المغامرة واكتشاف مناطق سلطانة الزمان سطيف، فكنت أول المشاركين في هذه الرحلة. الوجهة كانت التعرف على مدينة “لافاييت” بوقاعة حاليا، وما عزز فكرة اختيار الموقع سحر وجاذبية وخضرة المكان وتاريخ المنطقة والمركب المعدني “حمام قرقور” الذي يعتبر قطب سياحي واستشفائي هام.
من “الهضاب” بدأت المسيرة
كان الجو شديد الحرارة رغم أن الشمس لم ترسل كامل خيوطها في صباح باكر كانت فيه الساعة تشير إلى 07:30، وعلى غير العادة وصلت متأخرة إلى مركز “وطنية تي في” بحي “الهضاب” وجدت رفقاء الرحلة في الانتظار، بالإضافة إلى منظم الرحلة “إدريس قديدح ” ونائبة مدير القناة الوطنية (أحلام بواردي) متواجدان لتجهيز ما تبقى من الوثائق الرسمية قبل الانطلاق. بقينا للحظات ننتظر وصول الحافلة ومسيرة الرحلة عن الجمعية “شهيناز” وبعض الطلبة الإعلاميين، وبينما الزملاء يتبادلون أطراف الحديث دخلت إلى غرفة المحاضرات في المقر، لم أصدق ما تراه عيناي نساء في العقد الثالث من عمرهن كانتا داخل المركز، بعد أن قمت بتحيتهن تحية الإسلام توجهت مباشرة إلى إدريس لأسئلة عن سر تواجدهن لأنه، على حسب اطلاعي المعرفي، أن بوقاعة منطقة جبلية ذات تضاريس وعرة..سألت في نفسي إن كانتا ستذهبان معنا وكيف باستطاعتهما التمشي في المرتفعات؟ وجدت إدريس بقاعة التصوير والتقديم التلفزيوني فأجابني قائلا:”سيذهبن من أجل الاستحمام في حمام المياه المعدنية قرقور”، وما هي إلا لحظات قليلة حتى وصلت الحافلة كنت أول الصاعدين إليها ووضعت حقيبتي في المقعد الأخير أمام النافذة ليتسنى لي التمتع بسحر الطبيعة، وبعد اكتمال وصول الفريق انطلقت الحافلة باتجاه المدينة لنقل بعض الرفقاء كانوا بانتظارنا، بدأت منظمة الرحلة بتسجيل الحضور وبدأ الجميع يندمج في الجو الحماسي وكان برفقتنا شاب (ع ح) متربص في “الوطنية تي في” تخصص تصوير أضفت تصرفاته الشقية ونكته المضحكة جوا خاصا على المغامرة.
عين عباسة..المعبر الأخضر
كانت ساعة تشير إلى 10:00 صباحا كنا قد وصلنا إلى عين عباسة انبهرت بجمال المنطقة والجبال التي تكسوها خضرة الأشجار، طلب احد زملائي في الرحلة من سائق الحافلة التوقف من أجل مقابلة احد أقربائه، اغتنمت الفرصة أنا وبعض زميلاتي ونزلنا، رحت ألتقط الصور للمنطقة ولهن للذكرى وما هي إلا لحظات حتى طلب منا الصعود مجددا ومع ذلك كنت آخر من يركب إذ كنت منشغلة بالالتقاط الصور. انطلقت الحافلة وأكملنا مسيرتنا باتجاه حمام قرقور، لم نتوقف للحظة عن الغناء والتصفيق، وأنا بدوري لم أتوقف من تصوير رفقائي وكنا نعرف بعضنا ومن لم نعرفهم اندمجوا معنا مباشرة وشكلنا فريقا رائعا. كنا قد دخلنا منطقة بوقاعة حيث الجبال الشاهقة والأشجار حيث تشاهد المنازل وسط الغابات والسكان والبعض يرعى الأغنام والأبقار في الجبال كان حقا منظرا تنبهر العين لرؤيته، دخلنا إلى حي صغير خفض السائق من سرعة الحافلة بسبب تواجد سوق ” المال” الذي عادة ما ينظم كل يوم جمعة وهو ما يفسر اكتظاظ السيارات وبطئ حركة السير لتواجد الباعة على الطريق، وجدنا بعدها حاجزا للدرك الوطني أين طلب من السائق التوقف وبعد مراجعة الوثائق والتأكد من هوية المسافرين سمح لنا باستكمال الرحلة.
مياه “حمام قرقور” الثالثة عالميا..
أكملنا طريقنا..كانت كلها منعرجات، واصل الجميع الاحتفال حتى وصلنا إلى قلب مدينة بوقاعة التي تبعد عن ولاية سطيف بمسافة 50 كلم، وما شد انتباهي هو التغير الحاصل في هذه المنطقة من حيث المشاريع التنموية من بينها مشروع التوسع السياحي بالإضافة إلى انجاز مرافق سياحية وفندقية وترفيهية. والسبب الرئيسي في اختيار منطقة حمام قرقور لانجاز المشروع السياحي، بحسب رأي سكان المنطقة الذين سألناهمن يرجع بالدرجة الأولى إلى طبيعة المياه المعدنية للحمام المصنفة في المرتبة الثالثة عالميا بعد تشيكسلوفاكيا وألمانيا وبالتالي يحتل حمام قرقور المرتبة الأولى في إفريقيا، إذ تقدر سرعة تدفق مياهه بـ 8 لترات في الثانية بدرجة حرارة تصل إلى 48 درجة مئوية.
.. الإمبراطور “نيرفا” مر من هنا
كان يتعقب عجلات حافلة “الوطنية” إدريس وبعض المرافقين، وكانت المدينة تعج بالسكان والعائلات القادمة من كل حدب وصوب والحافلات مكتظة بالمسافرين قادمة إلى بوقاعة بالضبط إلى الحمام التقليدي أو كما يسمى بحمام “سيدي جودي” نسبة إلى أحد الأولياء الصالحين، ويعود تاريخ إنشاء حمام قرقور حوالي 107 بعد الميلاد من قبل الإمبراطور الروماني “نيرفا”بحسب الروايات التي أشارت إلى ذلك.
توقف سائق الحافلة أمام الحمام أين نزلت النساء للاستحمام بينما فريق الجولة السياحية كان مستعد لبدأ المغامرة كان منظموها يسيرون بنا والبداية كانت في السير بجنب “وادي بوسلام”، أو كما يسميه سكان المنطقة “وادي الحمام” الذي يتوسط المدينة بمياهه العذبة المتدفقة من باطن الأرض، والشئ المميز أنه يستقطب ويستهوي العائلات ويعتبر مكانا مفضلا تسترخي الناس على ضفافه للترويح عن النفس والسباحة في فصل الصيف.
مناظر تسحر الناظر
جذبتني المناظر الخلابة بسحرها لم أدع الفرصة تمر دون أن ألتقط صورا للعائلات المتواجدة والأطفال وهم يلعبون على ضفاف النهر كنت اسمع كثيرا نقيق الضفادع وخرير المياه، وكانت برفقتي طالبة جامعية تخصص لغة الفرنسية وكنا نتمشى سويا ونلتقط الصور لبعضنا البعض في كل زاوية نراها مميزة في هذا المكان الجذاب بينما الفريق قد ابتعد عنا كثيرا، لم نجد مكانا للتخييم وعدنا أدراجنا حيث راح الفريق يتمشى باتجاه قلب المدينة كنت أنا وبعض رفقائي متأخرين كعادتنا وكنا نسأل المارة عن مكان آخر نقصده ونستمتع بجماله فراح احدهم يصف لنا الأماكن الموجودة في مدينة بوقاعة وكيف نتنقل إليها حيث راح يقول: “لن تجدوا مثل هذه المناطق في أي مكان من العالم، ستلتقطون صورا لا يمكن أن تنسوها في حياتكم” وبعد أن تمنى لنا رحلة سعيدة، أكملنا السير إذ مر بجانبنا راعي غنم كان يسير والبقر تمشي مع قطيع الغنم، سمح لي راعي الغنم بالتقاط صور له وللقطيع، بعدها التحقت أنا وزملائي بالفريق .
شلالات طبيعية ولوحات فنية..
توجهنا سيرا باتجاه الحمام واجتزنا الجسر “القنطرة”، ما أثار انتباهنا الشلال المتدفق بجانب “القنطرة”، وكان مصور الرحلة يلتقط لوحات فنية بوضعيات مختلفة للأشجار والمياه المتدفقة من سفوح الجبال. وصلنا أخيرا إلى الغابة توزعنا بين مجموعات، منهم من جلس يسترخي وبعض الآخر يسير وسط النهر وكنت أنا وبعض الأصحاب نلتقط الصور لبعضنا بالهواتف الذكية والشيء المميز أن تكنولوجيا الجديدة “3G” سهلت علينا إرسال الصور في ثواني، والأجمل في الرحلة أننا خلقنا جوا مليئا بالمتعة وسط تبادل لأرقام الهواتف و”الفايسبوك”، وبعد لحظات ندانا منظم الرحلة إدريس وقررنا التخييم في بلدية “الحمامشة” التابعة لمدينة بوقاعة كنا بانتظار الحافلة التي توصلنا إلى وجهتنا الجديدة كانت المدينة في حضن الجبل، بدون مبالغة راح لساني يقول: “سبحان خالق ومصور هذا الكون”.
“الحمامشة”..للراحة والغذاء
كانت عقارب الساعة تشير إلى 12:00 زوالا، كنا قد وصلنا إلى قرية في منطقة الحمامشة، وجدنا مدير قناة الوطنية “طارق تشير” رفقة عائلته، كنا جد سعداء بالتحاقه بنا. استقبلنا عم وابن عم زميل متواجد في الرحلة معنا يقطن في تلك المنطقة وجدنا مكانا للتخييم في الغابة والصعود إليه يتطلب جهدا كبيرا. بدأنا نحن الشابات في التنقل الواحدة تلو الأخرى بحذر شديد والشباب قاموا بنقل لوازم الشواء والفحم من أجل تحضير الغداء، وكعادتي رحت أصور أصدقائي وهم يصعدون إلى الغابة..كلمني أحد رفقائي كان يحمل الأواني ومنهك من التعب قائلا: “لا تصوريني وأنا في أسوا حالاتي”، وزميل آخر قال لي: “أمضيت طفولتي هنا..فأنا أحتفظ بعديد الذكريات عن هذا المكان”.
وأخيرا اخترنا مكانا تحت الأشجار وضعنا حقائبنا الكل كان منهكا من شدة التعب، منهم من فضل المساعدة في تحضير الوجبة ومن زملائي من فضل الاسترخاء أما أنا فقررت الذهاب رفقة (ع ح) ابن منطقة بوقاعة من اجل إحضار النساء اللواتي رافقننا في الرحلة بعد خروجهم من الحمام، ركبنا حافلة الوطنية وكانت تحمل شعار “الوطنية تي في”، كانت وجهتنا الأولى اكتشاف المنطقة بدأ رفيقي يحكي لي تاريخ المنطقة، ونحن في شوارع المدينة وهو يعرفني على الأماكن حتى وصلنا إلى المركب المعدني الذي يعد من أكبر الحمامات والمركبات السياحية الحموية والتي تم تصنيفها عالميا، حيث فتح أبوابه لعلاج المرضى سنة 1987 أين تم تجهيزه بأحدث الوسائل الطبية آنذاك، وتعد مياهه الطبيعية والغنية بالكبريت والكلور والصوديوم التي تساعد في علاج بعض الأمراض الجلدية والتنفسية والعصبية، وأمراض النساء وأمراض التهاب المفاصل فهو مقصد للمرضى .
الدجاج بالأرز ..اختصاص المنطقة
وصلنا إلى الشارع أين مدخل الحمام التقليدي كان الحي يعج بالمارة والمطاعم جنبا إلى جنب مختصين في طهي الدجاج بالأرز حدثني رفيقي قائلا: “دجاج الحمام لن تأكلي مثله قط في حياتك”، وكانت هناك دكاكين لبيع الملابس والأحذية ومتجر لبيع المواد الغذائية، أما أنا كنت منشغلة بالالتقاط الصور وزميلي يتصل بالنساء لاصطحابهن، عرف مكان تواجدهن فتوجهنا إليهن مباشرة، بادر صديقي بشراء “الايسكريم” لي وللسيدات ولكن قبل العودة إلى المخيم قررنا التوجه أولا إلى زاوية “سيدي جودي” حيث قال لنا عنها رفيقي: “زاوية سيدي جودي” هي نسبة إلى المرابط سيدي جودي بلحاج، قدم من الصحراء الغربية إلى منطقتنا وأقام مدرسة قرآنية لتعليم القران” ويضيف متحدثا :” يحكي لي جدي بأن باي قسنطينة منح سيدي الجودي وقفا على زاويته يقدر بمئات الهكتارات من الأراضي في دوار عين الترك وبلدية المعاضيد، وأحفاد سيدي الجودي هم أول من قاموا بإنشاء الحمامات العمومية في الثلاثينات من القرن الماضي”.
بعد أن تعرفنا على الزاوية والمنطقة توجها إلى المخيم، وفي الطريق بدأت أدردش مع النساء فكلمتني إحداهن قائلة : “هذه أختي مريضة أحضرتها معي للاسترخاء وهي لا تخرج من منزلها، لما سمعت بوجود رحلة من ابنة ابنتي “ماريا” قررنا المجيء معها ونسيان مشاكلنا التي لا تنتهي، ونتنفس الهواء النقي ونستمتع معكم”.
تسلق الجبال.. هواية وتحدي
وصلنا إلى المخيم بقيت النساء جالسات قرب منزل عمة رفيقي لأنهن لا يستطعن تسلق الجبل بمنعرجاته شديدة الخطورة بالنسبة لهن، وعند وصولي إلى المخيم وجدت عائلة شاركتنا في الرحلة، بينما الغداء يجهز جلست على العشب مع الشباب وأحضرنا طبق يحتوي على الشواء على الفحم السلطة وقام الفتيات بتحضير “الحميس” وشواء الفلفل. وكانت تتناول الغداء معنا ضيفة الشرف “دعاء” ذات 10 سنوات ابنة عم صديقنا (ع ح)، بعد الغداء انقسمنا إلى مجموعات بعض الشباب فضل لعب كرة القدم وأنا وبعض رفقائي من الرحلة شباب وبنات اقترح علينا ابن المنطقة أن نتسلق الجبل للوصول إلى أعلى حجرة يشبه شكلها رجل جالس فوافقنا لأننا كنا من محبي التحدي.
كانت درجة حرارة الشمس مرتفعة والوقت زوالا، بدأنا مسيرتنا دائما كنت المتأخرة في السير لأني لا استطيع أن أمر دون التقاط صور للجمال المكان بالإضافة إلا أننا كنا نمشي بحذر شديد بين المرتفعات وكل منا يحمل عصا يستند عليها، مشينا كثيرا في المرتفعات حتى أنهكنا التعب استرحنا قليلا وأكملنا السير، والجميل في هذا أننا كنا نشاهد القرية من أعلى قمة والمنازل تبدو صغيرة، وكنت أنادي بصوت مرتفع إلى رفاق المخيم من بعيد وألوح بيدي، وصلنا إلى الحجر بعد عناء شديد واستغرقنا قرابة ساعتين نتمشى بحذر شديد لخطورة المرتفعات، بدأنا نلتقط الصور معنا، رجع أصدقائي إلى المخيم أما أنا فاغتنمت الفرصة لألتقط صورا للقرية من أعلى قمة وبعد إلحاح شديد من ادريس عدنا أدراجنا.
العودة على مضض..
وصلنا إلى المخيم وكانت الساعة تشير إلى الرابعة مساء، انقسم الفريق إلى مجموعتين استعدادا للمسابقة الترفيهية في بادئ الأمر لم أحبذ المشاركة حيث أنهكني التعب، وبعد الاستراحة قررت الانضمام، أمضينا أمسية بأكملها نتسلى ونمرح ومنهم من فضل الاستجمام والمشاهدة فقط، لم نشعر لحظة بالوقت وهو يمر إلى أن أشرفت الشمس على الغروب كان المنظر جميلا قررنا العودة بعد أن تناولنا لمجه المساء، التقطنا صورة جماعية، وعدنا إلى الحافلة التي كانت بانتظارنا والكل كان متأسفا للعودة لم نستطع أن نترك وراءنا جمال هذه الطبيعة الذي استمتعنا به خلال العودة إلى أن وصلت الحافلة إلى مدينة سطيف.