منارة العلم التي خبت… بين أمجاد الأمس وتحديات الحاضر

بقلم: محمد عمر حسين المرحبي – كاتب وباحث في الشؤون التربوية والفكرية
في صفحات التاريخ، حين نُقلب أوراق الحضارة الإنسانية، نجد أن أمتنا العربية كانت يومًا منارة للعلم والمعرفة، تُنير دروب العالم، وتغذي العقول من معينها الصافي.
من أرض العرب والمسلمين خرجت عقولٌ أضاءت للإنسانية طريقها، فها هو ابن سينا يضع أسس الطب، والخوارزمي يهدي للبشرية علم الجبر والخوارزميات، وابن الهيثم يفتح آفاق البصريات، والزهراوي يبدع في الجراحة، وابن خلدون يؤسس لعلم الاجتماع قبل أن تعرفه أوروبا بقرون.
كانت بغداد وقرطبة ودمشق والقيروان عواصم للحضارة، ومقاصد للعلماء والباحثين، وكانت العربية لغة الفلسفة والطب والفكر.
كان التعليم آنذاك رسالة لا وظيفة، والمعلم مربيًا لا موظفًا، والمدرسة بيتًا للروح والعقل معًا.
أما اليوم، فنقف أمام واقعٍ مؤلم؛ مدارسنا كثيرة ومخرجاتنا ضعيفة، وجامعاتنا تتكاثر، لكن الفكر الخلاق يتناقص.
صرنا نملك الشهادات، لكن نفتقد المعرفة، نردد المعلومات دون أن نُنتج معرفة جديدة.
أزمة فلسفة قبل أن تكون أزمة مناهج
ليست مشكلتنا في قلة الإمكانات أو نقص المباني، بل في غياب فلسفة التعليم ورسالته.
لقد تحول التعليم من مشروع نهضوي إلى منظومة شكلية، ومن بناء إنسان إلى إعداد موظف.
تكدست المناهج بالمعلومات، لكنها خلت من الحياة، وغاب السؤال الحر، فغاب معه الإبداع.
كان التعليم في الماضي يصنع المفكر والمجتهد والمبدع، أما اليوم فهو يُخرج متعلمين يرددون ما يُملى عليهم، دون وعي أو تحليل أو فهم عميق.
إننا نعيش أزمة فكرية قبل أن تكون تربوية، أزمة في الهدف والاتجاه، لا في الوسائل والمواد.
واقع التعليم العربي وتحدياته
يقف التعليم العربي اليوم أمام تحديات جسيمة، من أبرزها:
ضعف إعداد المعلمين وتدريبهم على أحدث الأساليب التربوية.
جمود المناهج وعدم مواكبتها للتطور العلمي والتقني.
غياب الاهتمام بالبحث العلمي، حيث تُهمل العقول المبدعة، ويُكرم المقلدون.
ضعف الوعي المجتمعي، إذ لا يُنظر إلى التعليم كقضية مصيرية تمسّ مستقبل الأمة.
الطريق إلى النهوض من جديد
إن الإصلاح الحقيقي يبدأ من إعادة بناء الإنسان قبل النظام.
علينا أن نعيد إلى التعليم روحه الأولى، فنزرع في الطالب حب السؤال، ونغرس في المعلم رسالة القدوة، ونصوغ المناهج لتكون طريقًا للتفكير لا للحفظ.
ولن يكون ذلك إلا من خلال:
وضع فلسفة تربوية واضحة تقوم على القيم والمعرفة والهوية.
تأهيل المعلم فكريًا ومهنيًا ليكون صانعًا للعقول لا ناقلًا للمعلومة.
ربط التعليم بالحياة العملية، ليصبح وسيلة للإنتاج والنهضة.
تعزيز البحث العلمي والابتكار، وتقدير العلماء والمفكرين.
غرس الوعي المجتمعي بأن التعليم مسؤولية الجميع، لا وزارة واحدة.
استعادة المجد
إن الأمة التي علّمت العالم الطب والفلك والفلسفة والرياضيات، قادرة أن تعود من جديد، إذا أخلصت النية وأيقظت الوعي.
فالمجد لا يُستعاد بالحنين إلى الماضي، بل بإحياء روحه في الحاضر، وبأن نُدرك أن العلم هو سلاح النهضة وبوابة السيادة.
لقد كنا بالأمس منارة للعالم، ولسنا اليوم بأقل قدرة ولا أقل عقولًا.
فإذا أصلحنا تعليمنا، وأعدنا الاعتبار للمعلم والكتاب والعقل، فسيعود إلينا المجد من جديد، وسنكون – كما كنا – أمةً تُعلّم، لا تتعلّم فقط.





