قسنطينة..المدينة التي يحلق فيها الإنسان فوق الصقور

يطلق عليها مدينة الصخر العتيق، مدينة الهوى والهواء جوهرة الشرق ومدينة الجسور المعلقة، قرتا، قرتن، وسيرتا العتيقة.

يزور سيرتا سياح  من أجل اكتشاف ثالث أقدم مدينة بجسورها السبع: جسر سيدي راشد أكبر جسر حجري في العالم، جسر ملاح سليمان، وهو جسر للمارة فقط في نهايته مصعد يؤدي إلى المدينة القديمة وسلاسم، ويمنع أن يمر منه ليلا إذ يقول قدامى الحي العتيق أن هناك منادية “عياطة” تنادي على كل من مر هناك ليلا وتختطفه. تمت إعادة تهيئة السلالم من السلطات المحلية بكميرات مراقبة بقدوم عبد الخالق صيودة كوالي لقسنطينة، جسر الحبال (قنطرة لحبال أو قنطرة السبيطار) القريب من المستشفى الجامعي للمدينة،  إذا مررت من ذلك الجسر تشعر أنك معلق بحبل في الهواء، الطيور من أمامك والطيور خلفك ولا ترى سوى الضباب، هناك من لا يتحمل علو المنظر  في ذلك المكان، عندها يقف الزمان وتشعر بحرية الإنسان، إذ تحلق فعليا فوق الصقور.

إذا أطلعت أفسل جسر باب القنطرة تطل على أجمل حديقة عتيقة تسمى حديقة سوسة التي تم إعادة الإعتبار لها مؤخرا تحمل تقسيما قديما من الحقبة العثمانية أين شيدها أحد البايات كمتنفس له، وثلاث جسور صغيرة أسفل المدينة منها جسر الشيطان، تشبه الأسطورة وتحكي أسرارا وغرائب لا يعلمها سوى من مر من هناك في زمن مضى، إظافة لجسر صالح باي العملاق الذي تم إنجازه سنة 2015.
تزخر جوهرة الشرق بمعالم سياحية لا يصدق ساكنها أنه يمر فوق صخور ضخمة نحتها تدفق مياه واد الرمال منذ زمن مضى، كيف  بزائرها الذي يضن أنه وسط لوحة فنية حية لرسام خياله واسع، من يحضر قرتن ينبهر، أما من يسكنها فتسحره، أحيائها تفوح بعبق التاريخ وروائح من زمن بعيد، في قلب المدينة تجد قصر الحاج أحمد باي أحد البايات التي حكمت المدينة في الحقبة العثمانية، وأنت تتجول بأروقته تستشعر أقوى الحضارات التي رسخت عادات الملوك في سكانها فأضحت تقاليد اعتنقها قاطني المدينة، حيث نهلو منها اللباس المطرز بالذهب الخاص بالنساء “الڨندورة” الذي سجل مؤخرا كتراث جزائري باليونسكو بفضل جهود وزارة الثقافة والفنون، النحاس وهي تلك القطع والأواني البراقة الثمينة كالصينيات والمرش والسكرية التي تزين الجلسات وتتباهى النسوة باقتنائهن في جهاز العروس البلدية، ناهيك عن المطبخ قسنطيني الغني بأطباق شهية ومختلفة وحلويات مصنوعة بأفخر المكسرات وعسل النحل التي تُسقى بماء الزهر أو الورد المقطر، الذي يستخلص من أزهار خاصة توضع في آنية نحاسية تسمى “القطار” من قطعتين أين يتم وضع الماء يغلي على نار هادئة مع كمية من الزهر “الكُبٌة” في القطعة السفلى “البرمة” وتغطى الآنية العلوية الموصولة بأنبوب تنزل فيه قطرات مستخلص محلول الزهر أو الورد أو العطرشة، ولك أن تتخيل رائحة المدينة في الربيع كأنها روائح بعثت من الجنة، تروي تفاصيل تطبيق هذه العملية السيدة زاهية فرحيوي رحمها الله وهي دكتورة أطفال وباحثة في التاريخ، تقول أن المدينة كانت تتزين لهذا التقليد وأن النسوة يرتدين أجمل حليهم وملابسهم لاستقبال الربيع وبعدها رمي النشرة في مكان يسمى الغراب بطقوس مفعمة برائحة الزهر والبخور وتصبح المرأة هناك عروس تستظيف صديقاتها لرمي النشرة تباركا بالموسم.
وقد أصبح لهذا مهرجان خاص يقام كل سنة ومعرض دأبت على تنظيمه غرفة الصناعات التقليدية بالولاية.


تزخر قسنطينة كذلك بسجل من رموز الوطن من العلماء والأدباء والشهداء والمجاهدين ممن حملوا على عاتقهم هم تعليم الأجيال ونصرة الوطن والجهاد في سبيله، كيف لا وهي مسقط رأس العلامة عبد الحميد بن باديس الذي أفنى حياته في سبيل تعليم الأجيال في الحفاظ على الهوية الإسلامية كونه مؤسس جمعية العلماء المسلمين، واهتمت السلطات المحلية بترميم منزله ومطبعته والمساجد التي دَرٌس بها، كما فُتحت مؤسسة خاصة سميت بإسمه وقد تم مؤخرا تقديم أكثر من 800 مجلد من كتاباته كوقف للجامع الأعظم بالعاصمة استلمه عميد جامع الجزائر، وكذا أسماء ثقيلة الوزن على غرار الأديب والمفكر مالك بن نبي، مالك حداد، رضا حوحو والتي تحمل عديد الثانويات أسمائهم، إضافة إلى رموز الثورة أبرزهم زيغود يوسف، فضيلة سعدان، مريم سعدان، داودي سليمان “حملاوي” الذي يحمل ملعب قسنطينة إسمه، وكذا عبد المالك رمضان.

إذا أردت أن تشتم رائحة رمضان، المولد النبوي، أو عيد الأضحى عليك زيارة السويقة القديمة، سيدي الجليس، الجزارين، أحياء عريقة تؤرخ لكل حكاية مرت بين أزقتها، وتروي حياة المواطنين اليومية، أفراحهم وأعيادهم، ومناسباتهم، وحتى أقراحهم حين اتردت يوما نساء المدينة “الملاية السوداء ” حزنا على وفاة صالح باي، فأضحت وسما لنسوة المدينة.
برزت الولاية مؤخرا بفضل مجهودات السلطات المحلية ورئيس الجهاز التنفيذي عبد الخالق صيودة الذي أولى اهتماما كبيرا بقطاع السياحة ما عكس ذلك في زيادة عدد السياح الوافدين هذا العام لقسنطينة، سيرتا لم تكن يوما مدينة سياحية فقط، سيرتا كتاب تاريخ مفتوح تحمل بين ثناياها عبق تراث لكل محب الثقافة.
قسنطينة المدينة الوحيدة التي يحلق فيها الإنسان أعلى من الصقور

عواطف بوقلي

بوقلي عواطف صحفية من قسنطينة متحصلة على ماستر 2 في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من جامعة قسنطينة 3. خريجة معهد وطينة ميديا للتدريب الإعلامي، لدي عدة تجارب في بعض الجرائد الورقية، و مراسلة بمواقع اخبارية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق