واحة الفن السابع: حراك فني يُقلع من صحراء تونس

من قصر غيلان التونسية، حيث تتشابك كثبان الرمال مع أشجار النخيل، يرتفع مجدداً صوت الفن السابع ليؤكد أنَّ الصحراء ليست مجرد ديكور شاسع، بل مسرح حيٌّ للإبداع، وبوابة سياحية ثقافية للعالم. افتتاح الدورة الثانية للمهرجان الدولي للسينما في الصحراء (FiCS 2025)، وتكريم قامات كـ سلمى بكار وسعاد بين سليمان، وصولاً إلى الحفاوة بالجزائر كـ “ضيف شرف”، كلها إشارات واضحة على أن الحلم الذي انطلق في هذه البقعة الغالية يتجاوز حدود المكان ليصبح رؤية مشتركة تُفكّ العزلة عن مناطقنا المغاربية وتصنع حركية فنية لا تُضاهى.
سحر الصحراء: شاشات طبيعية وإلهام لا ينضب
إن اختيار الصحراء كفضاء رئيسي لعرض الأفلام ليس مجرد خطوة تنظيمية، بل بيان فني عميق. وكما أشار مدير المهرجان، الفنان حافظ خليفة، فإن الهدف هو خلق “صورة أخرى غير الصورة النمطية الكلاسيكية المجترة” عن الصحراء.
نحن في الجزائر، ونحن أكثر من يدرك أن صحراءنا الشاسعة غنية بالتراث والحكايات والأسرار التي لم تُروَ بعد على الشاشة الكبيرة.
لهذا، يمثل هذا المهرجان فرصة ذهبية:
للمخرجين العالميين: لإعادة اكتشاف “سينوغرافيا” طبيعية استثنائية، حيث الرمل يتحول إلى سجاد أحمر، ورمال الليل إلى شاشة عرض عملاقة. الصحراء بمخزونها من القلاع المنسية كـ “الحصن الروماني” في قبلي، والموروث الإنساني العتيق، هي بلا شك أستوديو مفتوح ينتظر عيون المبدعين لتقديم أفلام وثائقية وروائية تتجاوز الخيال.
لتثمين المقومات المحلية: فالمهرجان لا يروّج للسينما فحسب، بل يشجّع السياحة الصحراوية ويدعم الاقتصاد المحلي. هو جسر بين الفن والحياة، يخرج بالعروض من “الفضاءات المغلقة” إلى “ربوع الصحراء الواسعة”، وهذا بحد ذاته يمثل قفزة نوعية في اللامركزية الثقافية التي طالما نادينا بها.
ورشات التكوين: استثمار في جيل الغد
الجانب الأهم الذي يجب أن نركز عليه نحن كإعلاميين وصناع ثقافة، هو البرنامج التكويني الذي تزخر به الدورة. لم يكن الإقبال على ورشات مثل الإخراج (زياد ليتيم)، والموسيقى والصورة (كريم الثليبي)، والممثل أمام الكاميرا (دانيالا جوردانو)، و”الرسم على الرمال” (الحبيب الغرابي) وورشة الصور المتحركة (صفاء معتوقي) وورشة الأشرطة الوثائقية (مروى الشرقاوي)
مجرد إضافة شكلية.
هذه الورشات هي منصة لاحتكاك الشباب بالمحترفين: تمنح جيلاً جديداً من هواة ومبدعي الجنوب فرصة نادرة للتعلم المباشر من خبراء عرب وأجانب، تماماً كما حدث في ورشة الرسم على الرمال الذي رافق حكاية الحكواتي صالح الصويعي. هذا هو التكوين الميداني الذي يصنع الفرق.
إنشاء نواة سينمائية واعدة: إن ورشات “سينما الشباب” و”سينما القرب” تضمنان استمرارية الحراك الفني. الشباب هم من سيحمل “وردة الرمال الذهبية” في الدورات القادمة، كما رأينا في فوز فيلم “غصة” ضمن مسابقة أفلام الشباب (60 ساعة).
دعوة للشراكة: الجزائر والعمق المغاربي
وجود الجزائر “ضيف شرف” في هذه الدورة، كان له صدى إيجابي لا يُخفى، وقد عبّر عن ذلك الرئيس الشرفي للمهرجان صالح الجدي بطرحه سؤالاً محورياً: “لماذا لا توجد إنتاجات مشتركة مكثفة؟”
من منبر صحفي جزائري، أؤكد أن التعاون الثقافي السينمائي في العمق المغاربي هو ضرورة وليست ترفاً. ولكننا نطمح للمزيد من العمل المشترك بين تونس، والجزائر وليبيا وموريطانيا والصحراء الغربية وغيرها. لدينا تاريخ وقضية مشتركة، كما ذكر السيد الجدي، وأهمها قضيتنا المركزية، فلسطين، التي كانت حاضرة في قلوب الجميع.
لقد أكد الفنان رؤوف ماهر بمفاجأته الجميلة على الركح، وتعهده بالحضور مجاناً في دورات قادمة، أنَّ الفنّ هو الذي يكسر الحواجز ويجعل القلوب تلتقي على رمال واحدة.
لقد أسدل الستار على الدورة الثانية ليزرع حلماً جديداً في صحراء قبلي. إن المهرجان الدولي للسينما في الصحراء، بنجاحه وتميزه وتكريمه لقامة كالجزائر، أثبت أنَّ الحلم الذي يغذيه الإخلاص، يُخصِب الرمال ويجعلها منارة للإبداع. ومثلما قال الشاعر جمال الصليعي: “عندي حلمي شاغلني نباه نزرع وطن ونخصب ثراه”، فإنّ السينما في الصحراء هي بذرة وطن فني جديد نأمل أن تثمر يداً بيد مع الأشقاء في كل دورة قادمة.





